Sabtu, 13 September 2008

Yusuf


يوسف- عليه السلام- ,

حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا على حبيبنا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تدور حول بعض المعاني اللطيفة، التي اشتملت عليها سورة يوسف عليه السلام، ذلكم النبي المبتلى بالشر والخير، بالبأساء والضراء، بالرق والعبودية والسيادة والملك. ويوسف نبي، وأبوه يعقوب نبي، وجده إسحاق نبي، وجد أبيه هو إبراهيم أبو الأنبياء عليهم جميعًا صلوات الله وتسليماته، قال عنه رسول الله- صلى الله عليه سلم-: "الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، يوسف، بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم" ( حديث صحيح رواه البخاري).


وهذه السورة مكية كلها، وقال بن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود، سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قصة يوسف، فنزلت السورة، وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتلاه عليهم زمانًا، فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ (يوسف: من الآية 2)، فتلاه عليهم زمانًا، فقالوا: لو حدثتنا، فأنزل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ (الزمر: من الآية 23)، قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل، ولقد اشتمل القرآن المكي على كثير من القصص: قصص الأنبياء والسابقين من الأمم التي خلت من قبل، حتى يسري عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويزيل عنه ما كان يصيبه من هموم وأحزان، بسبب إعراض قومه عن دعوته، وإيذائهم له عليه الصلاة والسلام، وحتى تأخذ الأمة العبرة والعظة من السابقين المكذبين والمعاندين. ﴿فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾ (العنكبوت)، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾ (يوسف).


إن الله- سبحانه- يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم- يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين- وهو يعاني صنوفًا من المحن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة، ومحنة الجب والخوف والترويع فيه، ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله، ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز، ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته، الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها، هذه المحن والابتلاءات، التي صبر عليها يوسف- عليه السلام- وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها، وخرج منها كلها متجردًا خالصا؛ آخر توجهاته، وآخر اهتماماته، في لحظة الانتصار على المحن جميعًا؛ وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله؛ وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾ (يوسف) آخر توجهاته، وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه، منخلعًا من هذا كله بكليته، كما يصوره القرآن الكريم:

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾ (يوسف).


وهكذا كانت طلبته الأخيرة، بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل، أن يتوفاه ربه مسلمًا، وأن يلحقه بالصالحين، وذلك بعد الابتلاء والمحنة، والصبر الطويل والانتصار الكبير.


يخطئ البعض حين يظن أن يعقوب عليه السلام قد انطلت عليه مؤامرة قتل يوسف، وأنه صدق أبناءه أنه قد مات، لأن يعقوب، إذا صدق أن يوسف قد مات، فإنه لا معنى للرؤيا التي رآها يوسف: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ فإذا كان قد مات فمتى تتحقق هذه الرؤيا؟. وهناك أمر آخر يدل على أن يعقوب كان على يقين أن يوسف لم يمت، ألا وهو قوله لبنيه: ﴿يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ (87)﴾ (يوسف) فإذا كان قد صدق أن يوسف قد مات، فلماذا يأمرهم بالبحث عنه؟ مع الوضع في الاعتبار أنه نبي، ومعاذ الله أن يهذي، أو يقول ما لا يعقل! وأمر ثالث، أن يعقوب نهاهم عن الدخول من باب واحد، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، حتى يستطيع يوسف أن ينفرد بأخيه، ويعرفه بنفسه، ويطمئنه على ما سوف يكون. ﴿وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)﴾ (يوسف).


والأمر الأخير الذي يدل على أن يعقوب، كان على يقين أن يوسف حي يرزق، أنه بعد أن جاءه القميص فشمه وعاد إليه بصره، قال: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون. فهذا يدل على أنه كان يعلم عن يوسف ما لا يعلمه إخوته، ولو كان لا يعلم ذلك، لَمَاَ وافق على إرسال ابنه معهم وهو يعلم خيانتهم في يوسف، ولَمَا قال: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)﴾ (يوسف) وتأمل قول الله تعالى: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)﴾ (يوسف).


ويستفاد من قصة يوسف بعض الأمور منها:

* أن في قصة يوسف، تنبيهًا على بطلان الحيل، وأن من كاد كيدًا محرمًا، فإن الله يكيده ويعامله بنقيض قصده، وبمثل عمله، وهذه سنة الله في أرباب الحيل المحرمة، أنه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل، ويهيئ لهم كيدًا على يد من يشاء من خلقه، يجزون به من جنس كيدهم وحيلهم.


* وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق، فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة.


* وفيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق، كافٍ في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزل إقراره، وهو أقوى من البينة، وغاية البينة أن يستفاد منها ظن، وأما وجود المسروق بيد السارق، فيستفاد منه اليقين. وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحبل- الحمل- والرائحة في الخمر، كما اتفق عليه الصحابة، والاحتجاج بقصة يوسف على هذا أحسن وأوضح من الاحتجاج بها على الحيل.


* وفيها تنبيه على أن العلم الخفي، الذي يتوصل به إلى المقاصد الحسنة، مما يرفع الله به درجات العبد، لقوله بعد ذلك ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: من الآية 76) قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم، وقد أخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاثة مواضع من كتابه: أحدها قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)﴾ (الأنعام) فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة، وقال في قصة يوسف: ﴿كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بالعلم الخفي، الذي يتوصل به صاحبه إلى المقاصد المحمودة. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾ (المجادلة) فأخبر أنه يرفع درجات أهل العلم والإيمان.


وفي السور دروس كثير، وحسبي ما ذكرت، مخافة الإطالة، سائلاً الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا، كما أسأل الله تعالى أن يرزقنا خلق الأنبياء وأن يحشرنا معهم، اللهم آمين